الليبيون بين الصخيرات وقمَّة باريس

 **أسرة  المختار العربي : سقطت بعض أجزاء المقالة سهواً فتم إعادة نشرها كاملة ، ولذلك وجب التنويه **

بالرّغم من أنَّه لم يتم التوقيع على مسودة اتفاق باريس فإنَّ الجلوس الرّباعي (الليبي) على طاولة التفاوض السياسي المعلن يعدُّ اعترافًا من قبل الحضور بالمتخالفين وإن اختلفوا، كما أنَّه يعد اعترافًا بين المتخالفين والمختلفين وإن كابروا؛ وبين هذا وذاك أصبح اتفاق الصّخيرات الملزم قد وقع في مسودّة اتفاق باريس غير الملزمة. 

ولسائل أن يسأل: لماذا اهتمام الرَّئيس الفرنسي بحلّ المشكل الليبي؟

أقول: الرَّئيس الفرنسي شخصيَّة طموحة تُحفّزه حيويّة الشَّباب المدفوعة بمؤسّسات الدّولة الفرنسيّة العميقة تجاه خلق كاريزما وطنيَّة تماثل تلك الشخصيَّات الوطنيَّة التي أسهمت في صناعة تاريخ الجمهوريَّة الفرنسيّة؛ ذلك لأنَّه لا يأمل أن يكون شخصيَّة عابرة؛ ولهذا فهو المتحفّز لتبنّي ما يمكن أن يتمّ تبنيه تجاه حلّ المشكل الليبي، والسّوري، والخليجي، والإيراني، وما يمكن أن يتاح فترة حكمه؛ ومن ثمّ فهو متحفّز لإظهار ريادته للدَّولة الفرنسيَّة.

وأقول: مع أنَّ كلّ الطُّرق تؤدّي إلى روما فإنَّ طُرق روما تجاه ليبيا كلّها مطبَّات أمام الحركة الفرنسيَّة، وبخاصّة أنَّ مهندسي تلك المطبَّات وخبرائها هم: الإنجليز الذين تسندهم الولايات المتحدة الأمريكية ثقافة وسياسة.

ومع ذلك أقول: إنَّ لكلّ قاعدة استثناء، فأمريكا في عهد الرَّئيس ترامب (الشخصيَّة المتحدّية) يمكن أن تلتقي مع طموحات الرَّئيس الفرنسي ماكرون في توظيف السياسة مصلحيًّا: (تحدّيًا وطموحًا)؛ ذلك لأنَّ الرَّئيس ما كرون طموحه زعامة أوروبا، أمَّا الرَّئيس ترامب فهو المتحدّي للواقع المألوف في إدارة السياسة الدوليّة، وبالتَّالي فتعاونهما يحقّق لهما المقاصد؛ ولهذا فسياسة الرَّئيس المتحدّي (ترامب) أسلوبها استخدام الضغوط المرهبة بلا رأفة؛ بغاية تقديم المزيد من التنازلات، وإن لم تقدّم التنازلات  تستخدم القوّة في حدود ما يُمكّن من إيجاد هزّة تؤدّي بأصحابها إلى الدوران، أمَّا سياسة الرَّئيس ماكرون الطموحة فأسلوبها: كل ما يُمكِّن من بلوغ الزّعامة يبادر به، والأمل لا يفارق.

ومن هنا: فالكيمياء المشتركة بين الرَّئيسين يمكن أن تلعب لعبتها مما يجعل الرَّئيس المتحدّي مستمتعًا بحدّة ضغوطه وشدّتها، ويجعل الرَّئيس الطموح مستمتعًا بكثرة مبادراته وإن لم تكلل باتفاقات موجبة؛ ولهذا وصف الرَّئيس ماكرون البيان المشترك بين المتخالفين الليبيين: “خطوة رئيسية نحو الالتزام بحلّ سياسي مهم لأمن أوروبا”.

إذن: ما يقلق الرَّئيس ماكرون هو: أمن أوروبا وليس أمن الليبيين مع العلم أنَّ طموحات الزّعامة تريد أن تُحيي تاريخًا قديمًا في ليبيا؛ ففرنسا أَخرجت إيطاليا من إقليم فزَّان عام 1943م وحلَّت محلّها وكأنَّ فزَّان جزءًا من التراب الفرنسي، ولكن قرار الأمم المتّحدة  عام 1949م باستقلال ليبيا أخرج فرنسا من الجنوب الليبي، ومع ذلك اشترطت فرنسا قبل الخروج أن يكون دستور الدّولة الليبيَّة اتحاديًّا بحيث يظل أمل العودة حيًّا لا يموت، وبقيت قواعدها في فزَّان حتى عام 1955م الذي من بعده تمّ إجلاؤها تفاوضًا مع أنَّها كانت تصرُّ على إعادة قوّاتها إلى فزَّان في حالة اعتداء أيِّ دولة أجنبيَّة على الإقليم، مع العلم أنَّ السيّد مصطفى بن حليم رئيس الحكومة الليبيَّة في ذلك الوقت قد فوّت عليها هذا الشّرط. 

وعليه: فالصّراع على ليبيا بين إيطاليا وفرنسا لن يموت، وضربات الكفّ على الأوجه ستكون متبادلة ولو كانت من تحت الطاولة، وبالتَّالي فالضحيَّة دائمًا: (الشّعب الليبي)، فإيطاليا ترى في نفسها صاحبة الحقّ؛ كونها المستعمر لليبيا، ولكن ذلك الكفّ الفرنسي الذي أخرجها من فزَّان لم يُمسح من الذّاكرة، وفي المقابل فرنسا ترى: أنَّ الوقت أصبح مناسبًا لضرب إيطاليا كفًّا آخَرَ يجعلها خارج المشهد الليبي بالمرَّة، ومن ثمّ؛ فالمشكل الليبي لن يُحلّ باتفاق باريس، ولن يُحلّ بمطبَّات روما؛ ولذا جاء البيان الختامي للفرقاء الليبيين حافظًا لماء الوجه الفرنسي فكان بيانًا غير ملزمٍ.  

ولهذا فإنَّ الصّراع الذي يجري اليوم في فزَّان هو نتاج صراع المصالح بين روما وباريس، وإنَّ تعدّد الحكومات في ليبيا هو أيضًا نتاج صراع المصالح بين روما وباريس؛ ومن ثمَّ فلا اتفاق بين الليبيين ما لم تتفق روما وباريس، أو أن تتخذ الأمم المتحدة قرارها كما اتخذته باستقلال ليبيا وإخراج روما وباريس، وكما اتخذت قرارها بإسقاط النظام السَّابق فأسقطته.

ولأنَّ السياسة الأمريكيّة الضاغطة تعرف أنَّ فرنسا تبحث عن زعامة أوروبيّة فإنَّها لن تعطها إيَّها وإن كانت كيماء الرَّئيس ترامب قريبة من كيمياء الرَّئيس ماكرون، ومن هنا فالولايات المتحدة لن تتخذ موقفًا من المشكل الليبي وستظل واقفة موقف المتفرّج؛ كونها تعرف أنّ الأمر لم ينضج بعد حتى تُقطف ثماره، وبخاصّة أنَّ التدخلات الفرنسيّة والإيطالية والمتعاونين معهما بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأمريكية ليسوا بالأعداء.

ولذلك أقول: إنَّ المشكل الليبي يكمن في انتشار الألغام الحائلة دون الانتخابات ومن ثمَّ ينبغي لنا إزالة الألغام أوَّلًا، ثمَّ الانتخابات ثانيًا.

ومن أعظم الألغام:

انتخابات بدون دستور، يعني: تمديد فترة انتقاليَّة جديدة تجعل الدّولار الأمريكي يساوي عشرات الدنانير الليبيَّة، وقد يجعل أحد مدن الجنوب المتبقية من الغزو الأجنبي مقرًّا ثالثًا لمجلسٍ وحكومةٍ مضافة.

وكذلك انتشار التشكيلات المسلّحة على الأرض الليبيَّة وتغييبها عن المشاركة يساوي: (الفيتو) الأمريكي في وجه أيِّ تسوية غير مرضية.

وعليه: 

_ لا انتخابات آمنة بلا دستور ليبي؛ ذلك لأنَّ الدُّستور وحده يُوصِّفُ الدَّولة هويَّةً، ونظامًا، ومؤسَّسات، وعلاقات، وملكيّة، فلا انتخابات بدونه، ولا عنوان للدَّولة، ولا صفة لها بدونه، ولا تكون الانتخابات مرضية إلَّا بإجراءٍ دستوري حتى وإن وافق على إجراء الانتخابات رؤوس المشهد السياسي الحالي. 

_ لا انتخابات ولا حلّ للمشكل الليبي بلا مشاركة التشكيلات المسلّحة، ولِمَ لا تُصبح التشكيلات المسلّحة حرسًا ثوريًّا للدّولة الليبيَّة كما كان الحرس الثوري في النظام السّابق مدنيين مسلَّحين، ورُتب منضبطة تقودهم قانونًا، فالخضوع للقانون يقطع سُبل الخوف ويطمئن المتخالفين.

_ لا انتخابات ولا أمن للمواطن ما لم يصدر قانونًا يُمكِّن حملة السّلاح من المشاركة في استتباب الأمن كما يمكِّنهم من إخضاع أنفسهم لذات القانون ثوابًا وعقابًا.

_ لا انتخابات عادلة ولا استقرار اجتماعي، ولا مصالحة وطنية ما لم تطوى صفحات المخاوف بالعفو العام عن الحقّ العام، وترك الحقّ الخاص للقضاء العادل.

_ لا انتخابات ولا حلّ للتأزمات الليبيَّة ما لم يتخلّص الليبيّون من عقليّة العقاب التي يلوّح بها البعض (عصًا) في وجه البعض الآخر؛ فيكفي الليبيين هذه العقليّة التي جعلت الجميع بالمرصاد للجميع.

_ لا اطمئنان لانتخابات ما لم تشكل حكومة واحدة يناط بها مسؤولية إدارة الانتخابات وأماكنها وتأمينها، وتحمّل ما يترتّب عليها من نتائج، وتحت إشرافٍ دولي. 

_ لا انتخابات ولا استيعاب ما لم تكن البداية مع النَّاس من حيث هم: (خلافًا، واختلافًا، وتضادًا، وصدامًا، وإجرامًا) لأجل أخذهم إلى ما ينبغي لهم أن يكونوا عليه: (أخوة أهل وطن واحد ملك للجميع)؛ إذ لا إقصاء، ولا تهميش، ولا هيمنة، ولا حرمان؛ فحتى المجرم إذا وجد من يأخذ بيديه يمدُّ يداه فما بالك بمن انتفض مع المنتفضين! ولذا فالشباب في اعتقادي لم يجدوا من يمدّ الأيدي إليهم، وهكذا الحال بالنسبة إلى المعارضين الذين طووا صفحات الماضي حتى وإن كانت نتائج التغيير غير مرضية.

 _ لا انتخابات آمنة وعادلة ما لم يميّز رؤساء المشهد السياسي الليبي بين حرصهم على بقاء ليبيا دولة واحدة مستقلة، وحرصهم على البقاء في كراسيّهم.

وعود على بدءٍ: أذكركم أيُّها الليبيون الكرام بأهميّة التوقّف عند شَرْطَي الجمهورية الفرنسية: فهي في عام 1943م لم توافق على استقلال ليبيا إلّا إذا كانت ليبيا دولة اتحادية، وهي أيضًا في عام 1955م لم توافق على خروج قواعدها من فزَّان إلَّا بقبول الليبيين عودة القوات الفرنسية إلى فزَّان في حالة تعرض فزَّان إلى عدوان خارجي.

ولسائل أن يسأل: ولِمَ لا تتدخّل الجمهورية الفرنسيَّة وفزان الآن قد تمّ غزو ثلثي أراضيها؟

أقول: هذا الغزو لا تعدُّه فرنسا غزوًا أجنبيًّا؛ بل تعدّه تدافعًا طبيعيًّا يربط مستعمراتها القديمة من جنوب إفريقيا إلى شمالها: (من النيجر، وتشاد، إلى الجزائر، وتونس)؛ ولذلك إن أردتم أيُّها الليبيون انتخابات في الجنوب الليبي فعليكم ألَّا تغفلوا حتى لا تفرض عليكم اللغة الفرنسيَّة.

د. عقيل حسين عقيل

4/6/2018م

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. إقبل إقرأ أكثر