تَكْسِيْرُ فَائِضِ القُوَّةِ .. لا للمُغَالَبَةِ

تَكْسِيْرُ فَائِضِ القُوَّةِ

لا للمُغَالَبَةِ

لا للمُغَالَبَة مفهوم موجب لكلمة سالبة (المغالبة)، منهيًّا عنها بـ(لا)، ومع أنها أصبحت موجبة (لا للمغالبة) فإنها أصبحت واجبة القول؛ تجنبًا لسيادة الهيمنة والتهميش والقهر على حساب نظريَّة (استيعاب الآخر)، فـ(المغالبة) لغة الظالمين، الذين لا يَرَوْنَ مصلحةً إلا مصلحتهم، ولا يرون الآخرين إلا آخرين.
ومع أن (المغالبة) قيمة سالبة فإنها في بلادنا قد ورِّثَت من جيل إلى جيل؛ بها ينامون، وعليها يُصْبِحُون، وكأنها القَرِينُ الذي لا يفارق إلا من رحم ربُّك.
ولأن وراء كل علة معلول، فإن علة (المغالبة) عند العربي كانت بعلةِ استهدافه عبر التَّاريخ ظلمًا وعدوانًا، حتى أصبحت لغة (المغالبة) تجري في دمه؛ خوفًا وعصبيَّةً، وكأنه لم يبلغ الـمَدَنِيَّة يومًا، وكأنه لم يكن أصلَ الحضارة، وأهلَ الرسالة، وأصبحت لغة (المغالبة) لسان حاله، لا يطمئن إلا إليها، حتى أصبح لا يُفَرِّق بينها وبين الشجاعة؛ إذ أصبحت لغة (المغالبة) في أسواق العرب رائجةً؛ كونها عادةً اعتادوها، عليها يُرَبَّى النشء، وبها يتفاخرون؛ ولهذا تُعَدُّ الوصية الأولى التي يوصي بها الآباء أبناءهم يوم التحاقهم بمرحلة التَّعليم الابتدائي، ويا ليتها تموت

ولأنها (المغالبة) التي لم تَـمُتْ بعدُ فها هي تملأ بلادنا حيويَّة؛ حيث يتدافعُ الإخوة اقتتالًا؛ بغاية الهيمنة، التي لن تتوقفَ ما لم يتم تكسيرُ فائضِ القوَّةِ من أيدي الليبيين، فمن وجهة نظر الآخر (المدوِّل للمشكل الليبي) لا إمكانية لتأسيس الدولة الليبية الآمنة ما لم يتم تكسيرُ فائضِ القوَّة في ليبيا، أي: لا تأسيسَ ولا بناءَ إلا بعد الانتهاء من مرحلة التكسير، التي في أساسِ وجودها كانت ولادَةً أجنبيةً من (المدوِّل)؛ ولهذا لا بد من كسرِ الشَّوكة، وتخييب الأمل لكل الأطراف المراد تكسير الفائض من قوتها؛ بحيث لا يكون طرفٌ قويٌّ في ليبيا لا غالبَ ولا مغلوبَ
ومن ثم: هناك إصرارٌ دوليٌّ يدور تحت الطاولات، مفاده: الاستمرارُ في تكسيرِ فائضِ القوَّةِ؛ حتى يتمَّ التخلصُ من رؤوس يَرَوْنَهَا خارجةً عن القانون، أو راغبةً في بلوغ الموت، أو ما هو مزعج؛ ولذا فالنتيجة المستهدفة من قبل مدوِّلي المشكل الليبي الجلوس على طاولة المتخالفي ولكن بعد إنجاز ما تمت الإشارةُ إليه؛ ولهذا يستمرون في الدعم المسيَّر؛ ضمانًا لتكسيرِ فائض القوة، وإنهاك المتقاتلين في الجبهات؛ حتى يرضخوا طوعًا؛ لتكون هذه الحرب آخر الحروب في ليبيا

ومن ثم يمكن لليبيين أن يرسموا خريطة دولتهم (سياسة-واقتصادًا-واجتماعًا)، أي: يمكنهم أن يؤسسوا دولتهم إذا التفتوا إلى كشف أسباب الخلاف، التي كانت مخفية تحت الرماد لسنين من الزمن، والتي بكشفها يستطيعون التَّمييز بين المرض وأعراضه، أي: يستطيعون التمييز بين الديمقراطية والانتخابات، فإن ميَّزوا بينهما علموا أن الانتخابات التي يطالبون بها حلًّا ليست الحلُّ، مما يستوجب تحديد المبادئ الوطنية، والأهداف المراد إنجازها أوَّلًا في عقد اجتماعي، أو وثيقة دستورية رفيعةٍ لهدفٍ سامٍ، وحينها تصبح الديمقراطية وحدها الممكن من تأسيس الدولة الوطنية ذات السيادة
   ولكن أية ديمقراطية؟

إنها ديمقراطية امتلاك الدولة، التي لا تتحقق إلا اقتصادًا وطنيًّا، فالليبيون لا شك أنهم جرَّبُوا ديمقراطية الدولة الريعية (الدولة النفطية)، ومركزية إدارتها، حتى سئموها، وبلغ الحال بهم رفضًا وتمرُّدًا وثورة حتى أسقطوها، وهنا وقفوا حيارى؛ حيث لا بديل، مما جعل بعض الناس يصرخون: (أَعِيْدُوا لنَا الدَّوْلَةَ) وهم يقصدون بعودتها: (عودةُ الأَمْنِ إِلَيْهِم)، وكأنه لا بديل للدولة الريعية، ومركزية إدارتها، في الوقت الذي نرى فيه دولَ العالم الـمُتَقَدِّم دولًا لا ريعية؛ حيث المواطنون فيها أرقام يساوون قيمًا، في الوقت الذي فيه المواطنون في الدول الريعية (الدول النفطية) يساوون أرقامًا بلا قِيْمَة

ومن ثم إذا أراد الليبيون النهوض والتقدم فعليهم بحرق أوراق الدولة الريعية ومركزية إدارتها، وتأسيس الدولة الديمقراطية، التي يكون المواطن فيها رقمًا يساوي قيمةً وطنيَّةً؛ كونه المالك للدولة، من خلال ما يُسْتَقْطَعُ منه من ضرائبَ مقابل خدمة، أو انتاج، أو صناعة أو تجارة، فالدولة الوطنية تكسب حيويتها من هذه الضرائب، ويكتسب المواطن شرعيته منها، أي: يعطي المواطن الضرائب التي تمكنه من ملكية الدولة، وفقًا لدخله، وأنشطته المتنوعة والمتعددة قانونًا، إضافة إلى حقه في العائد العام من الموارد الطبيعية، واستثماراتها الوطنية، ومن هنا يكتسب المواطن حق المراقبة، والمحاسبة، والمساءلة من خلال ممثلين له في المجالس التَّشريعية والتَّنفيذية
ولهذا لا يمكن أن تكون الدولة ديمقراطية والمواطن مغيبٌ، أي: إن المواطن الذي يعطي الضرائب من حقه أن يحاسب الدولة عن أوجه صرفها؛ ولهذا إذا أراد الليبيون ديمقراطية فعليهم بقهر نظرية (المغالبة) بنظرية (استيعاب الآخر)، التي فيها: (الحقوق تمارس، والواجبات تؤدى، والمسئوليات تحمل)، وعليهم بقهر إدارة الدولة الريعية (النِّفطيَّة) التي رسَّخت المركزية، وهَمَّشَت المواطن، وجعلت منه مجردَ تابعٍ للنِّظام، الذي ساد مركزيًّا في الدولة، التي حُرِمَ من حقِّ تملكها بقولهم: المواطنُ غيرُ واعٍ حتى يُمَكَّن من ملكيةِ الدَّوْلَةِ

فالدولةُ النِّفطية دولةٌ ريعيةٌ، ترسخ المركزية الإدارية، وتعيق انسياب الخدمات للمواطنين في مقار سكناهم، وأماكن ممارسة مناشطهم الاقتصادية والتجارية والخدمية، ومن ثم: تَفَشَّى الفسادُ حتى أصبح ثقافةً شَرْعَنَتْ لأكل المال العام_ وكأن أكلَه حلالٌ_ مما جعل الدولة تُنْهَبُ من الحاكم والمحكوم، كلٌّ وفق الفرصِ المتاحةِ، حتى وإن كان الظَّاهر غير ذلك، أضف إلى ذلك أن الحاكم في الدولة الريعية يرى الدولة مزرعتَه الخاصَّة، يعمل فيها ما يشاء؛ حيث لا رقيبَ ولا حسيبَ؛ ولهذا لا يمكن أن يشعر المواطن بأنه المالك للدولة، أي: إنه لا يشعر بشيء، سوى الغبن والاحتراق النفسي؛ مما يجعله يظهر ما لا يبطن، أي: إنه يظهر الولاء للحاكم، ويبطن الكيدَ به في أقربِ فرصةٍ ممكنةٍ؛ ولهذا يعمل الحاكم في الدولة الريعية على شراء الولاءات، وفي المقابل المواطن في حاجة لابتزاز الحاكم  ما استطاع إلى ذلك سبيلًا

وعليه: فعندما تؤسس الدولة على مرجعيةٍ وطنيةٍ، تحتوي الرأي العامَ سياسةً واقتصادًا واجتماعًا) تصبح الحلولُ والمعالجات وطنية، أما إذا كانت المرجعية (الزعيم، أو الرمز) فالبقاء لله وحده، وعلى البلادِ السلام، وتأسيس المرجعية الوطنية يستوجب تأسيس قاعدةٍ دستوريةٍ تمكن من ممارسة الحرية (ديمقراطيًّا ودكتاتوريًّا) في وقت واحد، أي: تمكن من ممارسة الديمقراطية تشريعًا؛ حيث لا وجود لكلمة (قِفْ)، وتمكن من التنفيذ دكتاتوريًّا؛ حيث لا وجود لشيء لم يقرر ديمقراطيًّا، ومن هنا يجب التوقف عند كلمة (قِفْ)؛ حيث الصلاحيات، والاختصاصات الدستورية، والقانونية، ومن ثم فممارسة الحرية بأسلوب ديمقراطي وحدها تَقْبُر لغة (المغالبة)، وتجعل من فائض القوة .. الدولة قوة
أ.د/ عقيل حسين عقيل
12/9/2019

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. إقبل إقرأ أكثر